الاثنين، 20 سبتمبر 2010

الصورة المفقودة!

بقلم: هبة عبد الجواد – يقظة فكر

حديث يطل خجلاً من بين تلك النوائب التي تحيط بمجتمعاتنا، لكنك تجد إلحاحاُ في الهمس به.. يروادك كلما خلوت بنفسك في محاولة صعبة لتجد سكوناً في دنيا الضجيج، أو ذوقاً رفيعاً بين الألوان الصاخبة من حولك، يراودك عندما يخيب أملك في أن يحدثك صغيرك بكلمات رقيقة، أو أن تجد من يطلي جدران منزلك بدقة وحس الإتقان.
ثم تجد نفسك تائها باحثاً عن المفقود بين ركام الفكر والعلوم المادية ونظريات التنمية البشرية، وتسأل السؤال الأصعب:
لماذا لا نتغير رغم أن الإشكالية ليست إشكالية علم، فالعلم موجود، ولا إشكالية فكر، فالكتب والمجلدات في المكتبات والمؤسسات والمراكز الثقافية تملأ الأرض..!

عااادي

إنها المتلازمة التي فقدت عنصرها الأقوى.. الروح.. تلك الروح التي نساهم جميعاً في قتلها كل يوم مائة مرة، بل يزيد.. بما نمارسه من سلوكيات تطبّعنا بها وأصبحت جزءً من سمتنا وهويتنا واعتادت تلك الروح المسكينة أن تسير معنا في ردهات الحياة.. نستيقظ كل يوم نلعن الواقع.. ثم نقول.. عادي!
  • عادي.. أن ترى أكوام من القمامة ولا تبتئس.. فبيتك من الداخل نظيف!
  • عادي.. أن تسمع ألفاظاً فظة ولا تهتم ..!
  • عادي.. أن تمارس وظيفتك الحكومية على مكتب تحت أنقاض من الأوراق والفوضى ولا تشعر أن هناك شيء غريب!
  • عادي.. أن ترى الأحذية أمام المساجد دون نظام ..!
  • عادي أن تشاهد شجار أبناءك ..!
  • عادي .. أن تلبس ملابس مهلهلة لأنها صيحة العصر!
  • عادي.. أن تستمع إلى كلمات تأنيب من عمتك وخالك لأنك لم تصل رحمهم من العيد الماضي ولأنه عادي فلم تعتذر!
  • عادي.. أن ترى بقايا طعام تُلقى من سيارة فارهة!
  • عادي.. وعادي.. ثم عادي ..!!
إن غياب التذوق الجمالي لمنظومة الحياة من حولنا أوجدت حالة من التشوه في جميع المجالات الإجتماعية والصحية والفنية والتعليمية..

فكيف وصلنا إلى هذا الحال؟
 

إنها تراكمات سنوات طويلة بدأت منذ القابلية للاستعمار وشعورنا بالعجز عن ملاحقة التقدم الصناعي والتكنولوجي والمعلوماتي، فانبهرنا بالآخر.. وأصابنا الضعف والهوان، فاحتلتنا الإنهزامية والانكسار قبل أن تحتلنا ثقافة القوى العظمى، وانعكس ذلك على التكوين النفسي والنضج في الشخصية!
فتبدلت الإهتمامات والتطلعات حتى وصلت إلى أدناها عند رجل الشارع البسيط، فأصبحت مجرد العيش من أجل العيش، والبقاء من أجل الغذاء والشراب وتأمين سبل الحياة البسيطة، فلم يعد يلتفت إلى ما عاداها.. فتولدت لديه أنانية تلقائياً، ومصلحية جعلته لايهتم بشئ حوله..!
وهكذا تكونت الحالة : مجتمع منفصل عن بعضه لا يرى الحياة بجمالها المعهود لا يبحث سوى عن سبل العيش وفقط ! ..يهرب من ضغوط الحياة إلى وسائل ترفيه تعيقه وتصيبه بالعقم الفكري والروحي ..
.. إنها شبكة معقدة من المشكلات والقضايا لا يمكن تمييز السبب من النتيجة فيها، والإشكالية في أن يتطبع الجيل الحالي بما هو كائن وكأنها أصل بيئته التي ولد فيها..
وفي تلك الحالة سيكون موقفه إحدى ثلاث:
  1. إما أنه سينبهر بالآخر المتقدم وسيرفض كل ما يتعلق ببيئته وثقافته، بل وسينخلع من جلباب أبيه وجده.
  2. أو أنه سيصيبه حاله من حالات التطبع والاعتياد دون شعور بأن هناك إشكالية، ويستمر على ماهو عليه باحثاً عن حلول لقضاياه بعيداً عن شعوره بأن ماهو فيه من فوضى و غياب للحس الجمالي من مسببات واقعه المغضوب عليه.
  3. أو أنه سينتهض بفكر مستنير وهو يدرك تماماً معيقات نهضته مشخصاً واقعه، محاولاً أن يساهم في عودة المكونات الإنسانية للحياة.. ربما لن يصل إلى مايريد.. وربما يخطئ الطريق.. لكن يكفي أنه قد وضع يديه على التشخيص الحقيقي للقضية.
هذه اليقظة الفكرية سيتبعها إدراك ووعي بأن كل ما تقع عليه العين وتسمعه الأذن، يُفسد بطريق غير مباشر أذواقنا وأخلاقنا وسلوكياتنا، لأنها علاقة طردية، كما يقول مالك بن نبي في كتابه شروط النهضة: (لايمكن لصورة قبيحة أن توحي بالخيال الجميل، فإن لمنظرها القبيح خيالاً أقبح، والمجتمع الذي ينطوي على صور قبيحة، لابد أن يظهر أثر هذه الصور في أفكاره، وأعماله، ومساعيه..)
ونتيجة لتلك الصورة المشوهة:
  1. يفقد الفرد الإدراك والوعي الحقيقي بمجريات الأمور من حوله ويراها من واقع البيئة التي اعتاد عليها، فما هو عادي عنده وجميل، مستنكر في مجتمعات أخرى.
  2. التأخر والتخلف عن ركب الإبداعات الفنية والإعلامية ,وفنون العمارة لأن مؤشر الطلب في الأسواق الفنية مرتبط بأذواق أفراد المجتمع، والذوق العام منحدر وغير متوافق مع الثقافات المتحضرة.
  3. التشوه في مظهر الحقبة التي نعيشها كمجتمعات عربية ، فلم يعد هناك سمت خاص معماري جميل يعبر  عن هويتنا ، أو أزياء شعبية تحمل في طياتها روح الحضارة القيمية التي نحملها ، في مقابل ثقافة استهلاكية وتقليد إجمالي سطحي دون وعي.
  4. فقدان الحس المرهف تراكمياً نتيجة لاعتياد العنف والصور الدموية في الأعمل التلفزيونية ووسائل الإعلام المختلفة ، مما يضعف مع الوقت الحس المرهف أو على الأقل يجعله وقتياً يزول مع زوال المؤثر.
  5. غياب روح التأمل والتفكر التي هي تطبيق عملي على النضج الوجداني في التركيبة الإنسانية ، فكيف بروحٍ تتغذى على ما تراه العين وتسمعه كل يوم من سوء الفعال وقبيح الأصوات أن تلتفت إلى جمال الطبيعة وتتأمل في السنن الكونية، يفسر ذلك “عزت بيجوفتش في كتابه الإسلام بين الشرق والغرب”: (من الممكن جداً أن نتخيل شاباً قد مر بجميع مراحل التعليم من المدرسة الإبتدائية حتى الكلية دون أن يكون قد ذكر له ضرورة أن يكون إنساناً خيراً وأميناً) ودون أن يأخذ حظه من التربية الجمالية!
  6. فقدان الكنز الحقيقي تدريجياً الذي نملكه كمجتمعات عربية والذي نتفوق فيه على الغرب، فربما لا نملك التفوق العلمي ولا التقدم التكونوجي رغم أننا في عصر المعرفة، لكن ثقافتنا تتتميز بمجموعة من القيم والمبادئ ستختفي مع الزمن نتيجة لتراكمات الانحدار في مستوى التذوق الجمالي المؤثر على السلوك.
إن عودة الجمال من أبسط الأدوار التي تقع على عاتق المهتمين بمجال صناعة النهضة والتقدم، وهي من أيسر التطبيقات لتحقيق ما نطمح إليه من رفعة مجتمعاتنا، فهو دور لا يتطلب سوى أن يراقب الإنسان أفعاله وتصرفاته ويزنها بميزان الجمال الفطري الذي خلقه الله فينا (إن الله جميلٌ، يجب الجمال) ..
الفرد معنيٌ و مسئول عن عودة الحس الجمالي، كما المؤسسات والأنظمة صاحبة القرار، وهذا ما يميز هذه الخطوة عن خطوات أخرى مثل التغيير السياسي، والتنمية الإقتصادية، ومحو الأمية.. فهي تخضع للفرد ذاته وقدرته على عودة الحس الجمالي.
  • فالطبيب الذي يتقن عمله ومظهره وشكل عيادته يساهم، والمعلم الذي يهتم بشخصيته وألفاظه وصوته الرقيق، وخطه في دفاتر الطلاب أيضاً يساهم..
  • وعامل النظافة الذي يهتم بوضع أكياس القمامة بداخل الصندوق وليس خارجها يساهم!
  • والمطرب الذي يغني بصوت رقيق هادئ يساهم!
  • والمهندس الذي ينهي البناء بدقة دون أن يترك وراءه تفاصيل بسيطة تؤثر على جمالية العمل أيضاً يساهم!
ويظل العبئ الأكبر على العاملين في المجال الفني لتزكية أنماط الفن مما قد اعتراها من تشوه ، ومسئولية كبرى تقع على القائمين على العملية التربوية في المؤسسات التربوية من واضعي مناهج ومربين ومعلمين وهيئات ومنظمات تهتم بالتربية.

دور العاملين في المجال الفني والأدبي

ربما الحديث عن أهمية الأدب و الفنون في عودة الجمال يحتاج إلى إفراد حديث خاص به، لكن يمكن بإيجاز القول بأن تقديم إنتاج فني يحفز العقل على التأمل والتفكير دون مباشرة وتقليد سيكون له دور كبير في إستعادة الحس الفني ، من خلال:
  • استحداث أدوات ووسائل وتضمينها في الأعمال الفنية وعدم مجاراة الثقافات الأخرى في إنتاجهم لاختلاف البيئات وطبائع الشعوب .
  • ابتكار ألحان غير تقليدية تصنع خطاً جديداً من الفنون العصرية والتي تتناسب مع هويتنا يعزز الحس الجمالي بل وينعكس أيضا على الروح وإيقاظ روح العزة فيها.
  • استثمار أنواع الفنون والآداب المختلفة وخاصة الفن التشكيلي والشعر والمسرح في ترجمة الأفكار الإيجابية التي تعزز الحس الجمالي وعدم الاكتفاء بتصوير الواقع المؤلم فقط.
  • الخروج من دائرة الذوق الجماهيري الحالي، والمساهمة في صناعة ذوق مجتمعي حديث من خلال إيجاد مساحات جديدة من الإنتاج الفني وخاصة مايتعلق بنوعية الفنون المغمورة مثل المسرح ، والفن التشكيلي وهذا ليس دور فردي بقدر أنه بحاجة إلى مجموعات أو مؤسسات ومراكز تهتم بتحقيق هذا الهدف.
  • دراسة العلاقة بين الفنون و نهضة المجتمعات وأثرها على السلوك الإنساني وعقد مقارنات بين الثقافات والحضارات المختلفة.
  • صناعة أدب حقيقي عميق المعنى والمضمون وعدم الاكتفاء بمجموعات سريعة النشر والهضم وسريعة الاندثار ، وهذا ربما يجعلنا نتطرق إلى إشكالية التعجل في الجيل الحالي وإلى ارتباط الفنان أو الأديب بالبحث عن باب رزق من خلال عمله  وهو غالبا غير مقدر في مجتمعاتنا لانتشار أساليب النسخ والاقتباس والنشر غير المرخص.
  • الاهتمام بتدريس الفنون من أجل الفن وليس من أجل استكمال المظهر التعليمي وتحصيل الدرجات ، وهو ما يرجعنا إلى العائلات التي كانت تهتم بتحفيظ القرآن والرياضة لأبنائها كما تهتم بأن يكون لديهم معلم خاص بالأدب والفنون وخاصة الشعر والرسم.
  • المساهمة في التنمية المعمارية والتي تظهر في العمارة والميادين والواجهات وكل ما تقع عليه عين رجل الشارع العادي من أسوار متهالكة من الممكن تحويلها إلى لوحات فنية بعمل تطوعي ، أو ميادين تحتاج إلى تجميل بأيدي شبابية ، والأهم هو الاهتمام بتجميل المناطق العشوائية وليس فقط الاهتمام بالأماكن العامة ، فمن الواضح أن تلك المناطق هي التي ينتشر فيها السلوكيات السيئة والتي هي انعكاس القبح الذي يرونه صباح مساء.[2]

دور المؤسسات التربوية

المؤسسات التعليمية والتربوية بشكل خاص معنيّة بالاهتمام بالتربية الجمالية[3] ليس من خلال التربية الفنية فقط لكن ..
  • بالاهتمام بتوفير المناخ الذي يتعلم فيه الطالب والذي يؤثر على تذوقه وشعوره ومنه إلى سلوكه وأخلاقه، من خلال تحقيق التوازن بين القوى العلمية والتقنية وبين القيم الجمالية والروحية والخلقية.
  • التوعية والتدافع على تعجيل تصحيح المفاهيم والقناعات وأنماط التفكير التي تساهم في عودة الحس الجمالي.
  • ربط الجودة والإتقان في الأداء بالنجاح والتميز وأن العبرة ليست في كم الأشياء لكن في المضمون.
  • دفع الجيل إلى ممارسة التأمل والتفكر من خلال مناهج العملية التربوية والتعليمية والابتعاد عن النصوص التلقينية الجافة، فالجمال هو مولد هام للتأمل وعندما ينتفي الجمال من الحياة تننتفي حالة التأمل والتفكر.
  • رفع الوعي بأهمية التعامل مع التكنولوجيا الحديثة وخاصة الوسائط المتعددة بنمط غير استهلاكي حتى لا تساهم في إضعاف المشاعر وخاصة فيما يتعلق في مجال الفنون والإعلام ومحاولة إيجاد مساحات جديدة لتعليم وممارسة الفنون المغمورة مثل الأدب المسرحي والرواية والفن التشكيلي والشعر الفصيح.
  • الاهتمام بالفنون ليس بجانبها التطبيقي وفقط ولكن باعتبار الفنون مدرسة  المشاعر  والتي تغذي الروح بإحساس مرهف راقي، تجعل النفس نقيّة من الشوائب والحواس نبيلة الفعال.
  • زيادة مساحة العلوم الإنسانية في المناهج التربوية والتعليمية ولكن بنسق جديد راقي اللغة والعرض.
إننا نمتلك مخزون من القيم الحضارية والمشاعر الإنسانية الفطرية هي في حد ذاتها محفل جامع لقيمة الجمال وهي بمثابة دعائم قوية تقودنا لاستثمار هذا الكنز في صناعة النهضة ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ولتصنع على عيني

صورتي
عالمٌ كبير ذلك الذي أبحرت إليه.. على غير هدى من الله ولا برهان.. من اليمّ إلى الساحل .. بتابوت السؤال ! واشتهت نبوّةً .. لتذوق جمال اليقين ..ولتقرّ عين أمتها فيها ولا تحزن ! حتى استجلبت ذلك الطور الخفيّ .. وصاغتها ... " ولتُصنع على عيني " العصا في يدها هشّةٌ مهترئة.. وأغنامها تبعثرت عند نفخة حياتها الأولى .. " ربااه .. عجّل بي لرضاك.. فلي مآرب عجِلة .. وأتِ بي على قَدّر ..فقد صنعت نفسي لك وحدك ! "