السبت، 9 يوليو 2011

معان.. الأصالة تنبض



يبدو أنني ورّطت قلمي حين وعدتكم أن أقص عليكم ما جرى في رحلتي الى معان، والتي كانت يوم أمس الجمعة 8/7/2011.. فالتفاصيل تزدحم في مخيّلتي..وأعجز كالعادة عن جمعها...إلا أنني أحاول أن أكسب قلمي شرف الخطّ عن هذه الحكاية العجيبة.. والأصيلة من نوعها !


الساعة السابعة الا ربع ..تصطف سيارة أخي العزيز أمام "ملتقى القدس الثقافي".. لقاء بأحبة مضى وقت طويل ولم ألتق بهم.. دقائق فتصل سيارة الثنائي الرائع ..أستاذي ومرشدنا ..وله من اسمه كل النصيب.. "أ.نادر عطية" ، والمهندس الراقي "م.وائل بطاينة".. فانتشى قلبي برفقتهم ..التي طالما سعدت بها من قبل :)


الساعة 7.20 ينطلق ركبنا..جنوباً ..نحو المحبوبة"معان" .. والتي أشد الرحل إليها لأول مرة.. وحقيقة انطلق الركب ولم أضع الكثير من الأمنيات على ما سأشاهد.. لعلمي الذي يعرفه الكثير من أبناء الاردن أن معان محض "صحراء" فأي شيء ذلك الذي سيشدنّي هناك !!


وابتدأ الركب بذكر المولى سبحانه وتعالى..إذ استودعناه سفرنا هذا ..وجددنا النيّة في اليوم الذي ينتظره الكثيرون ليريّحوا أجسادهم من عناء أسبوع طويل..مليء بالتعب والكد والجْهد.. ولكن من ذا الذي يريحنا من تعب الهمة؟؟ فإذا استراح الجميع قالت دنيانا لصاحب الهمة :إلا أنت !!.. وإذا عقل الناس أجمعهم قالت لصاحب الهمة :إلا أنت !!


إلا نحن .. نشد الرحل للعلم ، واستخراج مكنونات التاريخ ..الذي يسحرني ..ويوقفني أمامه كثيراً !!
مقصد الرحلة ..المرور على محطات سكّة الحديد الحجازي ..ولنعرّج بعضاً من الوقت على أطلال ذلك السلطان الفريد .." السلطان عبد الحميد الثاني" ...ذلك الاسطورة.. وكم كنت اشتاق يوماً لملقاه.. 






ذلك الذي خبّأ القدس في روحه وقلبه ووجدانه.. لربما عاشت القدس في نفسه أكثر مما عاش هو بذاته ! والدليل اننا وبعد ما يقرب من 93 سنة من وفاته..نقف وندعو له على هذا الانجاز العظيم !


ففي عام 1900 أصدر السلطان عبد الحميد قراراً يقضي بانشاء خط سكّة حديد الحجاز الذي يصل من دمشق وحتى المدينة المنورة سعياً لخدمة حجاج بيت الله الحرام.. وأكرم به من هدف وسعي !






نمرّ على المحطات تباعاً ..فتارة يميل الركب يميناً ..لتجد محطّة الجيزة.. ضبعة ..القطرانة.. عنيزة ..  المنزل ..خان الزبيب ...الحسا.. حتى وصلنا الى محطة جرف الدراويش.. والتي كان من نصيبنا الوقوف عندها بعضاً من الوقت ..




الخراب يعمّ الأرجاء.. بلا سكّان !
ومع ذلك فأنا أصغي إلى أصوات البشر الذين مرّوا على هذا المكان .. لقد مرّ الكثير من الحجيج !!
أصغي إلى أصوات تكبيراتهم .. حديثهم مع بعضهم البعض ..الحركة على الماء والشرب والتزوّد بما يلزمهم..مبيتهم وهدوء الليل من بعده ! حقيقة لست أدري إن مرّ عليهم ليل.. لكنني أثق أنه ليس كالذي يمرّ علينا اليوم !!






دخلنا الى غرفة التحكم الرئيسية في المحطة .. وكان من حسن حظّنا أيضاً ..أن إحدى القطارات كانت على وشكل الوصول الى المحطّة ..فجلسنا ننتظره بشوق ..حتّى طلّ من بعيد!! 


وعلى الرغم من أنه يستخدم اليوم لنقل الفوسفات.. الا أن لطلّته اشراقة خاصة .. لكم سعدت به ..قفزت عن السكة.. ووقفت ما بين الخطين أرقب وصوله ..والكل يناديني أن ابتعدي عن ذلك الموقع ..يبدو أنه كان خطراً ..ولكنني لم أشعر بذلك !






مرّ القطار .. صوته عجيب.. ولكنني لم أميّز بينه وبين القصيدة الثالثة !! كان يرويها برفق ..وانا انتشي :))
حتّى توقّف..ولكن الزمان توقّف قبله عندي ..أسرعت إليه ..ودخلت الى المقطورة الرئيسية ..لأشاهد مركز القيادة ..والعم الراقي الذي كان يقود هذا التحفة النادرة !!


درجات الحرارة ترتفع بقوّة كلّما اتجهنا الى الجنوب ! في الوضع الطبيعي كافية لتبخيري شخصيّاً ..ولكن المحاولات مستمّرة للصمود.
انتظرتنا سيارة قبيل وصولنا "لمعان" بقليل .. المح فيها شابان ..فاستبشرت .. 
وصلنا الى قلعة معان العثمانية ..وبناؤها الجميل الذي أمر ببناءه السلطان سليمان القانوني..لتكون مقراً للجنود ومحطة رئيسية من محطات سكة حديد الحجاز!..وعلى بابها تعرّفنا على الأستاذين "أ.عبد الله الحصان" و " أ. محمد أبو كركي" والذان رافقاننا طوال رحلتنا الرائعة ..


قلعة معان
في القلعة تجوّلنا ..وهوايتي التجوال في القلاع ..ثوانِ معدودة ..حتى وقفت على سقفها...تاركةً خلفي الجميع ..المنظر من فوقها بديع ! على الرغم من أن الصحراء تلفّ معظم الأماكن .. ولكن ثمة حديقة بديعة تحيط بها ..والخلفيّة بضع أشجار تحيط بها صحراء وصحراء !! ثوانِ قليلة حتى صعد اساتذتنا ..فعلمت أنها بساتين مدينة معان القديمة ..!






أقف على آثار أمم خلت ..وقد كانت سمتهم الكد والتعب والزرع !! عن يميني أسمع صوت الاستاذ يحدّثنا عن إحدى مقابر الأولياء في ذلك العهد ..




سوق معان القديم .. والذي كان يشكّل مع القلعة ما يشبه ب "باب الحارة" إذ كان مغلقاً ومسقوفاً ..!
نزلنا نحو تلك الحديقة التي تلفّ القلعة..لنشاهد النقش العثماني القديم .. العجيب ان معان "الصحراء" كما يعرف عنا الكثيرون ..هي من الأماكن التي لا تنقطع عنها المياه !! فابارها الكثيرة تغني أهلها عن الحاجة للماء من أي مكان سواها..والزراعة فيها بديعة أيضاً !


الحرارة تشتد وترتفع !! وقطرات العرق تنساب بقوّة !! وبات الجو لا يطاق !! ولكن أنت في معان ..حيث كل شيء يجود عليك بالكلّ منه ولا يخبل ببعض !!


حتى الأرض ..تغمرنا بلطفها ..فتخرج لنا ينبوعاً من الماء من إحدى الآبار الموجودة في ساحة القلعة ! ..وما أجملها من ماء.. وأبردها على القلب والروح ! ونكمل المسيرة الى الجسور العثمانية والقنوات المائية التي تبنى على درجة عالية من الحرفية !




نعود الى الباص ..وما أكثر التفاصيل !
ويأخنا أهل الكرم الى مركز مؤسسة سكة حديد العقبة ..التي تشرف على قطارات الفوسفات ..لنتعرف على عملهم وإبداعهم..وهناك نزداد قرباً من أهل معان ..وانجازاتهم..ومثاربتهم ..وكم أعجبني شعار المركز..أحسست بالقرب منه كثيراً !! 




ولن أستطيع ان أحدثكم عن نشوتي إذ أصغي الى الاستاذ عبد الله الحصان والاستاذ محمد الكركي..وهما يطرحان علينا فكرة مركز تدريبي يقومان عليه في محافظة معان وظيفته تنمية الشباب بالثقافة والإعلام ..وبكل الوسائل المتاحة !


ولا بد أن أقف هنا قليلاً ..والآن يبدو ان التجارب التي تتكرر تسعى لتوصل إليّ رسالته مفادها.. أن أجمل الأفكار..وأكثرها تفعيلاً للحضارة الانسانية ..والقيم البشرية الراقية ..تخرج من أماكن لا نتوقعها !! بل ومن أشخاص نظن أن لا مكان لهم على الخارطة !!
ولكنهم سبقوننا كثيراً !!
فالفعل أصدق من أيّ تنظير بطبيعة الحال !
من المركز .. نتجه الى محطة سكة الحديد التي استحدثت على البناء العثماني باتجاه العقبة ..سعياً للمساعدة في نقل الفوسفات ..وهناك كانت لنا وقفة عجيبة .. مع "هنجر" التصليح والصيانة للقطار.. _كان مميزاً وكفى ! _ 
ثم يتتكرر مشهد الكرم والأصالة ..فيحملنا سائق القطار على مقطورته الصغيرة التي تستعد لدخول عملية الصيانة في يوم عطلته !!!
نركب المقطورة على ضيقها.. الكثيرين بقوا في الخارج ... ولكنها مسيرة رائعة لبعض الدقائق هناك ! 




الى المحطّة الحجازية الاصلية ..والتي وقفنا بعض الوقت ننتظر كرماً جديداً يدخلنا إليها ..على الرغم من كثرة أعمال الصيانة فيها ..المحطة الأصلية ، أو "فندق البتراء" أول فندق في الأردن... أو "قصر الملك المؤسس" الذي حطّ به عندما دخل الى الاردن وخاطب أهل معان لنصرته من على تلك الشرفة .. أو مكان اصدرا جريدة" الحق يعلو" أول جريدة في الاردن ..باي الاسماء التي سلفت ستتجه الى نفس المكان ...






وقفة بديعة ايضاً !!
وهنا يغمرنا كرم الاستاذين البديعين مجدداً ..فلا يدعونا نكمل رحلتنا قبل التزود بالماء .. وبعزيمة لطيفة على الغداء ..استمتعت بقوّة هناك، مع النقاش المستفيض عن الكثير من القضايا التي تهمّ معان وأهلها.. وخصوصاً خطة ذلك المركز الذي تحدثت عنه :)


وسام معان


الى جولة بديعة أخرى في بساتين معان القديمة ..ونظام الريّ العجيب ..الذي لا يزال صالحاً للاستعمال لحد اللحظة !! يبدو ان معاني "الاحسان "عندهم عاليه بالدرجة الكافية لمثل هذا الاتقان ! 
الى الوادي ..ثم نحو ذلك النسر المنحوت في الجبل ! ومسير طويل متعب !!
نمرّ على القبور تارة ..وعلى مغارة "نسيت شو اسم الأم المسماة باسمها" يذكر لنا الاستاذ محمد أنها مليئة بالجماجم :)






ثم على محطّة جديدة من الكرم المعاني الاصيل .. لا بد أن الطائي لم مرّ كما مررت ..لقرر أن ينتسب إلى أهل معان !
وبعد عناء شديد ..تحت هذه الشمس الحارقة نصل الى بركة الحمام ونظام تجميع المياه هناك ..
ثم الى مسجد معان الكبير..وجولة مميزة في وسط معان .. 
لا بد أن انقضاءات الأوقات لها حكمة عجيبة من نوعها !! الشمس تشارف على المغيب..وما زال لدينا الكثير من الهمة والشغب ..وكثير من التعب أيضاً !!






تنتهي جولتنا مع الرائع عبد الله الحصان ..ويأبى أن نوصله الى بيته !!!!
ونلتفّ برفق ..ووجهتنا عمّان ..نحمّل اليها الكثير من معاني الأصالة ..وكم أعشق هذا المعنى ..
فأن تكون أصلياً في زمن النسخ هذه معجزة عجيبة ! 
نحمل اليها كدّ البشر وثقل ما يحملون ..وندع المفارقة لاصحاب العقول الرصينة !!
نحمل اليها الكثير من الهمم ..والاسماء..والصور !






نحمل إليها مجداً ..صاغه السلطان عبد الحميد ..وأتمّه الملك المؤسس عبد الله ..وها هم شباب معان يحملونه من بعدهم ..فأين نحن منهم ؟؟
الرسالة بليغة .. ولم يبقى معنا سوى الذكريات ..والذكرى مع من نحب ليست أجمل منهم لا والله .. ولكنها تزيدنا قرباً ..لا أكثر !
ونسأل بحيره ..أين يمكن أن ينتهي انتظارنا للحلم ..حتى ننتظر عنده !


أعتذر عن حروفي المهترئة ..فأهل تلك البقاع أجمل ..وأروع ..ولهم في فؤادي الكثير !
كل التحية ..والحب .. والهمة ..


ولعل الرحلة القادمة ..لن تكون..الا إلى القدس العتيقة :))


صفاء الزغول
9/7/2011


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ولتصنع على عيني

صورتي
عالمٌ كبير ذلك الذي أبحرت إليه.. على غير هدى من الله ولا برهان.. من اليمّ إلى الساحل .. بتابوت السؤال ! واشتهت نبوّةً .. لتذوق جمال اليقين ..ولتقرّ عين أمتها فيها ولا تحزن ! حتى استجلبت ذلك الطور الخفيّ .. وصاغتها ... " ولتُصنع على عيني " العصا في يدها هشّةٌ مهترئة.. وأغنامها تبعثرت عند نفخة حياتها الأولى .. " ربااه .. عجّل بي لرضاك.. فلي مآرب عجِلة .. وأتِ بي على قَدّر ..فقد صنعت نفسي لك وحدك ! "